العداء سُنة كونية


العداء سُنة كونية
د. زياد موسى
وجود الأعداء سنة كونية أودعها الله عز وجل في خلقه، وهذه العداوة موجودة بين البشر والشيطان، وبين البشر بعضهم البعض، وبين البشر وبعض الكائنات الضارة، وبين الكائنات المختلفة، وعندما نتأمل ونتفكر ونتدبر نجد أن وجود الأعداء نعمة من الله عز وجل لا تستقيم الحياة من دونها.. فهذه محاولة للتفكر والتدبر في هذه النعمة.
 أول عداء في تاريخ البشرية كان مع إبليس اللعين، حيث أخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم أن إبليس اللعين رفض واستكبر السجود لآدم، ورفض طاعة أمر الله عز وجل، فطرده الله من رحمته، وحقدًا على آدم وذريته فإنه أخذ عهدًا على نفسه بأن يضل آدم وذريته ليتبعوه، ونجح الشيطان في تحقيق أول أهدافه وأغوى أبوينا آدم وحواء فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، وكان العقاب الخروج من الجنة، والنزول إلى الأرض{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (البقرة: 36)، أي أن الله عز وجل قدر العداء بين بني آدم لكي تستقر الحياة.
وفي غواية إبليس لأبوينا درس لذرية آدم إلى يوم القيامة، نتعلم من هذا الدرس أن من يطيع الشيطان لن يدخل الجنة، والعداوة والبغضاء بين البشر تكون بفعل عدونا الأول إبليس اللعين {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يس: 60)، و {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير}(فاطر: 6).
الأعداء من البشر
بل إن من سنن الله سبحانه وتعالى أنه جعل لكل نبي عدواً {وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (الفرقان: 31)، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112)، وجعل الله لنبيه محمد  "صلى الله عليه وسلم"  أعداء من الكفار واليهود، وطلب الله سبحانه وتعالى منه  "صلى الله عليه وسلم"  الصبر والاقتداء بأولي العزم من الرسل: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الأحقاف: 35)، فوجود الأعداء والصبر عليهم ومحاولة التغلب عليهم يزيد أجر الأنبياء والمؤمنين، ويرفع درجاتهم يوم الدين.
وكذلك قال الله تعالى في قرآنه: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا} (الحج: 40)، فتدافع الناس بعضهم لبعض ومقاومة الظالمين والمستبدين، ووجود صراع بين القوى المختلفة من السنن الإلهية التي تصلح بها الخياة على الأرض، ويجعل هناك توازنًا بين القوى، فلولا خوف الناس والدول من بعضها البعض لما حدث التوازن في الدنيا ولما صلحت الحياة. 
الإسلام دين محبة وسلام
الإسلام دين محبة وسلام، لا يحض على العداء، الإسلام دين سلام تحيته السلام، يدعو المسلمين إلى الوحدة ونبذ الخلاف والعداء، حيث يقول الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا... } (آل عمران: 103)، ومع الأعداء يأمرنا الله أن نقاتلهم إذا اعتدوا علينا {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة: 194)، وأن نأخذ حذرنا ونتخذ العدة، وإذا كانت هناك نية صادقة من الأعداء للسلام فيجب أن نتجه للسلام {وَأَعِدُّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تظلمون. وإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال: 60-61)، فالإسلام دين سلام لا يدعو للعداء، بل يدعو للمحبة وللخير.
ومقاومة الأعداء لها أجر كبير عند الله، يصل بالمسلم لدرجة الشهادة، حيث قال رسول الله  "صلى الله عليه وسلم" : «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد» (صحيح الجامع)، وعن ثواب الشهيد قال رسول الله  "صلى الله عليه وسلم" : «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه» (رواه الترمذي وصححه الألباني).
العداء والتقدم العلمي
وجود الأعداء كان سببًا للتقدم العلمي في مجالات عدة، مثل مجالات الفضاء، والطاقة والاتصالات... وغيرها، ففي مجال علوم الفضاء كان للصواريخ بعيدة المدى فضل في تقدم علم الفلك، حيث إن هذه الصواريخ تحمل سفن الفضاء التي يتم إطلاقها لتصل لسطح القمر، بل كان العداء، أثناء الحرب الباردة في القرن الماضي بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي السابق، سببًا في احتدام السباق بينهما في برامج الفضاء واستكشاف القمر، وتقدم علم الفلك.
وكذلك لعبت هذه الصواريخ دورًا في إطلاق الأقمار الصناعية لتدور في مداراتها حول الأرض، والأقمار الصناعية كما هو معلوم لها مجالات عديدة مثل: الإعلام وبث القنوات والإذاعات الفضائية، والاستشعار عن بُعد لكشف ثروات الأرض في باطن التربة وغير ذلك.. فهل تخيلنا لو لم توجد الصواريخ التي تستخدم في الحروب هل كان علم الفضاء يستطيع التقدم؟ وهل كنا نستطيع التمتع بمزايا الأقمار الصناعية؟
والتقنيات التي تستخدمها الجيوش أيضًا كانت دافعًا للتقدم في علوم أخرى، فمثلًا علوم الذرة تقدمت بسرعة بعد الحرب العالمية الثانية وإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونجازاكي في اليابان من جانب الولايات المتحدة الأميركية، فشرعت الدول الكبرى في العالم في عمل برنامج نووي لإنتاج قنابل نووية، ونشط هذا المجال من العلوم ونشطت استخدامات أخرى وفروع أخرى لهذه العلوم مثل انتاج الطاقة النووية، وغيرها من مجالات الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
بل إن أجهزة الرادار التي تستخدمها الجيوش كأحد أهم أسلحة الدفاع الجوي لرصد الصواريخ المعادية مستوحاة من الخفافيش التي تمثل أحد أعداء البشرية، فالخفاش مصاص الدماء الذي يمص دماء الحيوانات الأليفة في أميركا الجنوبية، هذه الأجهزة تستخدمها أجهزة المرور في مراقبة السيارات في مختلف أنحاء العالم، والأعداء من الكائنات الحية التي تسبب أضرارًا للبشرية هي الدافع الرئيسي لتقدم العديد من العلوم التجريبية مثل الطب والزراعة وغيرها.
ترويض الأعداء من الكائنات
ويمكننا بالعلم أن نروض الأعداء من الكائنات، بالعلم نستطيع أن نحول الأعداء من الكائنات إلى أصدقاء، فهناك أمثلة كثيرة على ذلك عبر تاريخ البشرية التي استفاد فيها الإنسان من الأعداء الطبيعية التي تسبب له إزعاجًا، سواء كان ذلك إزعاجًا مباشرًا له، أو لنباتات الحقول التي يزرعها أو الحيوانات الأليفة التي يربيها.
فمثلًا النجيلة التي تسبب مشكلة كبيرة للمزارعين عندما تنمو في الحقول وتأخذ منهم وقتًا وجهدًا لمقاومتها، استطاع الإنسان أن يستفيد منها ويزرعها في ملاعب كرة القدم، فملاعب النجيلة الطبيعية هي أساس كرة القدم حاليًا في العالم على المستوى الاحترافي.
المكافحة الحيوية
يمكننا أن نستخدم الكائنات الصديقة لنا أو بعضًا من منتجاتها في مقاومة أعدائها من الآفات الضارة لنا فيما يعرف بـ «المكافحة الحيوية»، فمثلًا استغل العلماء علاقات التطفل والافتراس والكائنات الممرضة في مكافحة الحشرات التي تصيب النباتات.
الافتراس هو مهاجمة كائن حي (المفترس) لكائن حي آخر (الفريسة) والتهامه جزئيًّا أو كليًّا تاركًا إياه ميتًا أو مشرفًا على الموت، ومن أهم المفترسات حشرات أبو العيد وأسد المنّ وغيرهما، والتي تفترس العديد من الحشرات الضارة، أما التطفل فهو مهاجمة كائن حي (المتطفل) لكائن حي آخر (العائل) في أحد أطواره، واعتماده عليه في غذائه وتطوره مسببًا له الموت في النهاية، مثل طفيل التريكو جراما Trichogramma الذي يتطفل على بيض حشرات حرشفيات الأجنحة مثل: ديدان اللوز على القطن، ودودة ثمار التفاح، ودودة ثمار العنب، وكذلك تستخدم الميكروبات التي تسبب أمراضًا للحشرات الضارة في القضاء على هذه الحشرات، والميكروب هو أحد الكائنات الدقيقة التي تسبب المرض (فطر أو بكتيريا أو فيروس... إلخ) مثل بكتريا (Bacillus thuringiensis) التي تهاجم حشرات تنتمي إلى رتب تصنيفية مختلفة، وأفضل أنواع هذه البكتيريا تهاجم اليسروعات (رتبة حرشفيات الأجنحة).
وكذلك يقوم العلماء بالاستفادة من علاقة العداء في القضاء على الحشائش، حيث تستخدم بعض الميكروبات التي تصيب الحشائش ولا تؤثر في نباتات المحاصيل الحقلية أو البستانية في مكافحة هذه الحشائش.
وفي المقاومة الحيوية أيضًا يتم ترويض الأعداء، حيث أن البكتيريا المسببة للعفن البني للبطاطس (رالستونيا سولاناسيرم) من أخطر أنواع البكتيريا على الاقتصاد العالمي، حيث أنها تصيب أكثر من 200 نبات تنتمي لأكثر من 50 عائلة نباتية، تمكن العلماء في استراليا من استخدامها لمقاومة الحشائش التي تنمو في الغابات حيث إنها لا تصيب أشجار هذه الغابات وتصيب الحشائش فقط.
بل تستخدم فيروسات تصيب البكتيريا في مكافحة الأمراض البكتيرية التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات، فهناك فيروسات تستطيع أن تصيب البكتيريا وتقضي عليها، ويعرف هذا الأسلوب بــ "العلاج بالفيروسات" (https://zeiadmoussa.blogspot.com/2014/01/blog-post_6333.html)
كذلك يمكن استخدام بعض الزيوت العطرية وبعض المركبات التي يتم استخلاصها من بعض النباتات الطبية مثل الينسون والزعتر والشمر وحبة البركة في مكافحة الميكروبات الممرضة للنبات والحيوان والإنسان، وتستخدم هذه المركبات في صناعة الأدوية والمبيدات في جميع أنحاء العالم لمكافحة الميكروبات الضارة.
كذلك استغل الإنسان الأسلحة التي تستخدمها الميكروبات ضد بعضها أثناء تنافسها في البيئة، فالمضادات الحيوية تعتبر أسلحة تستخدمها هذه الميكروبات للقضاء على غيرها من الميكروبات الأخرى، فمثلًا يستطيع فطر البنسليوم أن ينتج المضاد الحيوي «البنسيلين» الذي يقضي على ميكروبات أخرى، واستغل العلماء هذا المضاد الحيوي بعد استخلاصه وتنقيته في علاج الكثير من الأمراض، والقضاء على كثير من الميكروبات الممرضة.
هذه محاولة للتفكر في نعمة وجود الأعداء، والسنة الكونية لوجود العداء، ومحاولة لذكر البعض القليل من أفضال هذه النعمة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْساَنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: 34)، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 18).
المصدر: مجلة الوعي الاسلامي -ربيع الآخر 1433 هـ -مارس 2012 م – العدد 560 – صـ 48 -50 

تعليقات